• ٢٣ تموز/يوليو ٢٠٢٤ | ١٦ محرم ١٤٤٦ هـ
البلاغ

خطوطنا الحمراء

فهمي هويدي

خطوطنا الحمراء

حين يلقى القبض على قاض متلبسا برشوة مقدارها ٦٥٠ ألف جنيه لتبرئة متهم في قضية مخدرات منظورة أمامه، فتلك جريمة تحسب على فاعلها، الذي هو شخص واحد من بين نحو ١٤ ألف قاض في مصر.

أعني أنها ينبغي أن تقدر بقدرها، إذ هي ليست ظاهرة عامة تهز بنيان المجتمع، ولا هي مما يشين عموم القضاة، ناهيك عن أنها لا علاقة لها بالمصالح العليا للبلد، لا بالأمن ولا بالسياسة أو الاقتصاد.

وإذا كانت القضية حادثا فرديا محدود الحجم والأثر، فليس مفهوما لماذا يصدر بحقها قرار بحظر النشر، بحيث تتحول إلى خط أحمر يغلق فيه باب الكلام لينفتح واسعا باب النميمة والشائعات.

لست أشك في أن النائب العام الذي أصدر قراره بهذا الخصوص يوم الخميس الماضي ٢١/٧ له أسبابه التي دعته إلى ذلك.

لكن ظاهر الأمر يوحي بأنه لا يوجد سبب عام يبرره، الأمر الذي يحيلنا إلى الأسباب الخاصة على اتساعها.

الأمر ليس جديدا في مصر، لأن سلاح حظر النشر أصبح يشهر بين الحين والآخر للتعتيم على بعض الملفات والقضايا التي يراد حجبها عن الرأي العام من خلال «فرمانات» يصدرها النائب العام، تأمر الجميع بالصمت وعدم الحديث بصوت عال على الأقل.

وثمة تقدير أحصى ٢٥ قضية صدرت بحقها قرارات بحضر النشر خلال السنوات الثلاث الأخيرة. قليل من مبرراتها مفهوم وأغلبها دوافعه غير مفهومة.

وهو ما أصبح محلا للانتقاد والتندر، الذي عبرت عنه القصة كثيرة التداول (أشرت إليها من قبل) التي تحدثت عن طفل من أبناء المسؤول الكبير حين عاد من مدرسته باكيا ذات يوم، وشكا لأبيه أن زملاءه دأبوا على السخرية منه على «الفيس بوك»، فما كان من الرجل إلا أن طيب خاطره وطلب منه الكف عن البكاء، قائلا إن ذلك لن يتكرر لأن قرارا بحظر النشر في موضوعه سيصدر في اليوم التالي!

لست في مقام مناقشة موضوع حظر النشر وما إذا كان مشوبا بإساءة استعمال الحق أم لا، رغم أن تلك مسألة جديرة بالبحث والتحرير.

فإن أكثر ما يهمني في اللحظة الراهنة هو ما يفضي إليه تعدد تلك القرارات التي باتت تملأ الفضاء المصري بالخطوط الحمراء.

وهو ما يوسع من دائرة المحظورات. مما يؤدي إلى تراجع مؤشرات الشفافية ويشكل عدوانا على مبدأ الحق في تداول المعلومات الذي يقرره الدستور ويفترض أن تترجمه السياسة وتحميه.

يستوقفنا في هذا الصدد التزامن الذي يحتاج إلى دراسة بين تزايد المحظورات في الدين وتزايدها في الدنيا، وكيف أن ضيق الصدر والتشدد على الخلق يمثل قاسما مشتركا بينهما.

وإذ أتمنى أن يتولى من هو أخبر مني وأعلم تحرير تلك العلاقة، إلا أن السياق الذي نحن بصدده يدعونا لأن نتوقف عند تداعيات المحظورات أو الخطوط الحمراء الدنيوية. ذلك أن تأثيرها على ثقافة المجتمع وآفاق الحوار فيه لا ينكر.

لا يقل عن ذلك أهمية ما تفضي إليه من حيرة وبلبلة في أوساط المعنيين بالشأن العام وأهل الرأي منهم بوجه أخص. إذ حين ندقق في المشهد من هذه الزاوية سنجد أننا صرنا نتعامل مع مستويين للخطوط الحمراء، أحدهما ثابت طول الوقت والثاني متغير بتغير الأحوال والحسابات والأمزجة.

الثابت يشمل المقدسات السياسية رفيعة المستوى. وهذه المقدسات قد تكون رموزا عالية المقام، أو مؤسسات لها حظها من القوة والنفوذ. وتلك دائرة لها ذاتها المصونة التي لا تمس. والتعرض لها بغير المديح والتهليل بمثابة «إهانة» لها.

والإهانة في هذه الحالة من الكبائر التي لا تغتفر. حيث الوقوع في الكبيرة إثم ومروق له تكلفته الباهظة.

أما الخطوط الحمراء المتحركة فهي التي تطلق حسب الطلب وترسم بين الحين والآخر لتتعامل مع مختلف المستجدات كي تضفي الحصانة وترخى الأستار على أشخاص وملفات تختلف حساسيتها وحساباتها بحسب تقديرات الأطراف السياسية رفيعة المستوى التي تتحصن وراء الخطوط الثابتة.

ومن الفوارق المهمة بين ما هو ثابت ومتحرك في الخطوط الحمراء، أن الثابت منها له أسبابه العامة المفهومة، وثيقة الصلة بالخرائط السياسية، وتلك أسباب يمكن استنتاجها.

أما الخطوط المتحركة فأسبابها خاصة في أغلب الأحوال، وغير مفهومة على الدوام. صحيح أن حظر النشر له أصل في الدستور، مبني على رعاية «المصلحة العامة»، لكن انضباط المصطلح أو تسيُّبه مرتبط بالحالة الديمقراطية وحيوية قوى المجتمع ومؤسساته.

وبسبب ما تعرف من الوهن الذي أصاب الديمقراطية والمجتمع في مصر، فإن إطلاق الخطوط الحمراء أصبح خاضعا في شق كبير منه لمقتضيات السياسة وملاءماتها. حتى أصبحت الظاهرة تعبيرا عن أزمة السياسة وليس أزمة الدستور والقانون.

ارسال التعليق

Top